مخيم الزعتري: عشر سنوات من حياة لاجئ

رسمة فنية

جدارية فنية في مخيم الزعتري للاجئين. تصوير: تينا أبو حنا

جدارية فنية في مخيم الزعتري للاجئين. تصوير: تينا أبو حنا

 في تموز من هذا العام أحيا العديد من السوريين المقيمين في مخيم الزعتري للاجئين، البالغ عددهم 80 ألفاً، ذكرى مريرة ممزوجة بمشاعر الحنين. فقد انقضى عقد من الزمن على إقامتهم في موقع نزوح تناهز مساحته 5 كلم مربع.

إذ افتُتح في العام 2012 مخيم الزعتري، أحد أكبر مخيمات اللاجئين في العالم، لاستضافة السوريين الفارين من الحرب. وبعد مرور عشر سنوات، فإننا ندعوكم إلى زيارة المخيم للقاء أولئك الصامدين الذين يتخذون من ذلك المكان مسكناً لهم. فما هي أحلامهم، وماذا يحمل لهم المستقبل؟

زنابق النهار

Small girl holding flowers

.طفلة تلتقط الزهور في حديقة منزلها بمخيم الزعتري

.طفلة تلتقط الزهور في حديقة منزلها بمخيم الزعتري

 يفضل محبو البستنة زنابق النهار لطبيعتها المتكيفة. فلكونها أزهاراً قادرة على الازدهار من تلقاء نفسها، فإنها تستطيع الصمود أمام فترات الجفاف القاسية، والتربة المتدنية الجودة، ودرجات الحرارة العالية. وحتى في الظروف غير المؤاتية فإنها تُزهِر بوفرة وبألوان برّاقة.
 يذكرني اللاجئون السوريون المقيمون في مخيم الزعتري للاجئين بزنابق النهار. ورغم أنهم مروا بأحداث أشد قسوة مما يمكن للكثيرين أن يتصوروا، فإنهم ما فتئوا يزدهرون وينجحون، ويثبتون للعالم مرة تلو الأخرى بأنهم أكبر مما تمليه عليهم ظروفهم. إذ لا يمكن تخيل مقدار الطاقات الكامنة والمواهب والروح الإبداعية لدى سكان المخيم.
 يحل هذا العام متمماً لعقد على إنشاء مخيم الزعتري الممتد على مساحة 5,3 كيلو متر مربع من الأرض التي تتناثر عليها المآوي والمحلات، وتؤوي أكثر من 80,000 لاجئ سوري. وتحت شمس تموز الحارقة، يحيي سكان المخيم تلك الذكرى بإحساس من المرارة الممزوجة بالذكريات الطيبة، فقد شكلت بالنسبة لهم تلك السنوات العشر محنة نزوح وكانت برهاناً على صمودهم.

التعبير عن المعاناة

بالأعمال الفنية

Father and son.

.يبتسم عماد أمام عدسة الكاميرا وهو يحمل ابنه

.يبتسم عماد أمام عدسة الكاميرا وهو يحمل ابنه

 تظهر البصمات الإبداعية في كل بقعة في الزعتري. حيث تمثل خيام اللاجئين المستغنى عنها قماش الرسم الأنسب للوحات التي يرسمها عماد ذو الثلاثة والثلاثين ربيعاً.
 لقد كان والد عماد الراحل رساماً وفناناً، ولدى عماد نفس تلك الموهبة. وقبل عقد تقريباً كان يدرس للحصول على شهادة جامعية في إدارة الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم من جامعة حلب. وعندما اندلعت الأزمة في سوريا اضطر إلى ترك دراسته والفرار مع أسرته إلى الأردن.
 لم تكن الحياة في المخيم أمراً هيّناً. فقد عانى والد عماد من السرطان أثناء مكوثه فيه وتوفته المنيّة بعد ذلك بفترة قصيرة، مما جعل من عماد المعيل الوحيد لأسرته. ولقد سعى عماد للتنفيس عن نفسه من خلال الرسم لكنه لم يستطع إيجاد الأدوات الفنية اللازمة في المخيم الناضب. والمدهش في الأمر هو أن الخيام التي عاش فيها هو وغيره من الكثيرين إبان مكوثهم في الزعتري كانت هي الحل. فقد قام عماد بتقطيع الخيام القديمة ومدّ القماش على أطر خشبية، معاوداً بذلك إطلاق رحلته صوب الاحتراف الفني.
 وهو يقول: "إن أكثر ما أفتخر به هو هذا الإنجاز. فأنا أستطيع أن أوصل رسالة إلى العالم مستخدماً خيمة لاجئين."
A painting o a woman.

.إحدى رسمات عماد

.إحدى رسمات عماد

الابداع في كل زاوية

A mural of birds.

عند مدخل مخيم الزعتري يقف حائط مستدير مُزيّن برسومات اختطتها قبل عدة سنوات مجموعة من اللاجئين الفنانين المعروفة باسم "طوق الياسمين"، التي كان عماد أحد أعضائها. يملأ الفن كافة أجزاء المخيم، وكل ركن من أركان المخيم هو شاهد على مواهب اللاجئين الفنية وبصماتهم الإبداعية.

عند مدخل مخيم الزعتري يقف حائط مستدير مُزيّن برسومات اختطتها قبل عدة سنوات مجموعة من اللاجئين الفنانين المعروفة باسم "طوق الياسمين"، التي كان عماد أحد أعضائها. يملأ الفن كافة أجزاء المخيم، وكل ركن من أركان المخيم هو شاهد على مواهب اللاجئين الفنية وبصماتهم الإبداعية.

 ترى راما ذات السبعة عشر عاماً بأن كل شخص لديه القدرة الفطرية على الرسم بشكل جميل، غير أن تلك الموهبة يجب أن تُنمّى وتُطوّر.
A girl holds a painting of nature.

.راما مع إحدى لوحاتها

.راما مع إحدى لوحاتها

 بدأت راما بالرسم وهي في سن الثالثة ولا تزال تنمّي قدرتها الفنية. وهي الآن على وشك بدأ دراستها في الصف الحادي عشر. لم تكن تبلغ من العمر سوى ثماني سنوات عندما فرت أسرتها من الحرب في سوريا. ومن تطلعاتها المستقبلية الحصول على شهادة جامعية، وعرض لوحاتها في معرض خاص، والسفر حول العالم.

 لقد حددت راما طموحاتها للمستقبل لكنها لا ترى كيف لها أن تتحقق بالنظر للواقع الحالي الذي تعيشه.

حرية أن تكون لدينا أحلام

Four boys holding thumbs up.

أربعة أولاد من مواليد الزعتري ، كلهم أبناء عمومة. من اليسار إلى اليمين: عمر وشادي وعبد الحميد وعبد الحميد. صورة من عام 2019.

أربعة أولاد من مواليد الزعتري ، كلهم أبناء عمومة. من اليسار إلى اليمين: عمر وشادي وعبد الحميد وعبد الحميد. صورة من عام 2019.

 خلال العشر سنوات الماضية وُلد أكثر من 20,000 طفل بعيداً عن وطنهم في مخيم الزعتري الصحراوي المقفر. وفي الأغلب فإن هذه الفئة من الأطفال، الذين هم جميعهم دون سن العاشرة، لم تعرف الحياة خارج حدود المخيم. حتى أن بعضهم لم يرَ أبداً في حياته درجاً أو يقطف تفاحة من شجرة.
 لقد قمنا في المجلس النرويجي للاجئين بكتابة قصص عديدة عن أطفال الزعتري. وسألناهم عن أحلامهم وآمالهم وهمومهم والأمور التي يتمنون أن تتغير. لقد عرفناهم لسنوات.
 كان العام 2019 عندما التقينا لأول مرة مع عمر وعبد الحميد وشادي وعبد الحميد، وهم جميعهم أقرباء ولدوا في مخيم الزعتري من آباء فروا من الأزمة السورية. لم يكن يتجاوز عمرهم آنذاك السبع سنوات، حينها أخبرونا عن أحلامهم للمستقبل. وهم يحتفلون هذا العام بعيد ميلادهم العاشر، أي عيد ميلادهم العاشر وهم في المخيم.
 وقد قمنا بزيارتهم من جديد في تموز من هذا العام وتحدثنا إليهم مجدداً عما يريدون أن يصبحوا عندما يكبرون. فهم لا يزالون عازمين في السير نحو طموحاتهم.
 شادي، الذي يرتدي بنطالاً من الجينز ويمرر يده بين خصائل شعره الأحمر، يحلم في السفر في يوم من الأيام إلى أمريكا وزيارة عمه. كما يحلم بأن يصبح محامياً.
 عبد الحميد، الأطول قامة من بينهم، لا يتردد للحظة في قول ما يطمح أن يصبح عندما يكبر. إذ يقول: "أريد أن أصبح شرطياً لكي أحمي المجتمع".
 عمر، الذي يبتسم أمام أقاربه ابتسامة شقيّة غمّازة، يخبرنا بأنه يتمنى أن يصبح قاضياً.
 يجلس الطفل الآخر الذي اسمه عبد الحميد مرتدياً قبعته وطرفها الأمامي مائل إلى جانبه الأيسر. وهو يتكلم بثقة عن رغبته في أن يصبح طبيب أسنان.
 بالنسبة لغالبية الناس فإن أحلامهم غالباً ما تتطور من طموحات غير محددة المسار إلى أهداف محددة يمكن تحقيقها. أما بالنسبة للاجئين فإن أحلامهم يلتبسها الكثير من الشك والحيرة.

 

عيد الميلاد العاشر

Tents in a camp.

مخيم الزعتري عام 2012 صورة: Christian Jepsen/NRC

مخيم الزعتري عام 2012 صورة: Christian Jepsen/NRC

 نزاول أعمالنا في المخيم منذ إنشائه في عام 2012 وقد شهدنا تحوله من مكان لجوء مؤقت إلى بيئة إبداعية خصبة.

 تصطف على نسق عشوائي مساكن ذات تجهيز مسبق مداها العمري ست سنوات، وجميعها تعكس اللمسة المميزة لساكنيها. حيث أن بعضهم بنى نوافير من مواد مُعاد تدويرها، وبعضهم زرعوا حدائق تنتج المزروعات الصالحة للأكل، وبعضهم وضعوا مطابخ يدوية الصنع، وبعضهم أنشأوا منازل من مقطورات سكنية بدائية الصنع.

 يغلب على الطقس الطابع المُتنبَّأ به حيث تبلغ درجات الحرارة مستويات عالية في شهر آب بملامستها 40 درجة مئوية، وتتلطّخ ملابس المارة بالوحل بفعل الأمطار الغزيرة التي تهطل في كانون الثاني والمعتادة في موسم الأمطار.

 لقد توسع طريق السوق الذي يشق مساره عبر المخيم بشكل ملحوظ خلال العقد المنصرم. حيث انتشرت الأخبار المتناقلة عن افتتاح أول كشك تجاري بعد سبعة أيام فقط من استقرار اللاجئين في المخيم في عام 2012. واليوم يضم السوق ما يقارب 1800 محل، العديد منها متميز وإبداعي بشكل ملفت.
Two children in a garden.

.طفلان في حديقة مصنوعة من مواد معاد تدويرها

.طفلان في حديقة مصنوعة من مواد معاد تدويرها

A storefront.

شارع رئيسي حيث يوجد السوق في مخيم الزعتري. Photo: Beate Simarud/NRC

شارع رئيسي حيث يوجد السوق في مخيم الزعتري. Photo: Beate Simarud/NRC

اسم وهوية وغاية

A sewing machine.

.ماكينة خياطة في استوديو الخياطة

.ماكينة خياطة في استوديو الخياطة

 اسم وهوية وغاية "إذا أمكننا أن نتصور الحياة على أنها صفحة ورقية، فقد بات حيز وجودي محصوراً على هامش تلك الصفحة عندما وطأت قدماي الزعتري لأول مرة"، هكذا تقول إخلاص، التي هي أم لأربعة أطفال.
A woman tailoring.

.إخلاص في العمل كميسر للخياطة

.إخلاص في العمل كميسر للخياطة

 فرت إخلاص في عام 2013 إلى الأردن مع أطفالها، حيث كان أكبرهم عمراً آنذاك يبلغ العشر سنوات. وهي التي قضت كل حياتها في منطقة حوران لحين فرارها، إذ اعتادت الاستيقاظ والإطلال على المشاهد الخضراء من نافذتها. ومع أنها شعرت بالامتنان للأمان الذي منحها إياه الأردن، فقد استغرقها ردح من الزمن للتأقلم مع المناظر الشديدة الصحراوية للزعتري.
 ولجمت إخلاص نفسها من الارتكاس إلى عزلة أكبر في المخيم بإيلائها الأهمية لأطفالها. وبوجود أربعة أطفال بحاجة للرعاية دون أن يكون لديها أقارب أو أفراد عائلة في المخيم، فقد ابتعدت بنفسها عن روتين الصمود اليومي وبدأت باستكشاف المجتمع المحيط بها.
 وتضيف قائلة: "لقد كان صعباً بالنسبة لي ترك أطفالي وحدهم في المقطورة السكنية لساعة أو ساعتين يومياً. لكن كان عليّ تأسيس حياة جديدة في المخيم."

 كما كان التغلب على التصورات الثقافية المحيطة بها تحدياً رئيسياً. فلقد تربت على الاعتقاد بأن دور المرأة هو البقاء في المنزل والاعتناء بأطفالها، بينما يقوم زوجها أو عائلتها أو أقاربها على توفير جميع احتياجاتها. فلوكنها وحيدة في الزعتري، كان أطفالها يعوّلون عليها.

 وتردف بالقول: "كل شيء تغير هنا. فكما لو أننا كنا في حلم عندما كنا في وطننا سوريا وقد أفقنا منه لنرى الواقع أمامنا في الأردن."

 وبالاعتماد على كامل إرادتها الذاتية طورت إخلاص مهاراتها، وحصلت على أدوار لدى منظمات متعددة في المخيم، وتعمل حالياً مع المجلس النرويجي للاجئين كوسيط تدريبي في مجال الخياطة. إذ أن العمل منح إخلاص غاية وهوية ومجتمعاً.

 وهي تقول: "أصبح الناس الآن يطلبونني بالاسم. فهم يعرفون من هي إخلاص. فعلى نفس تلك الصفحة الورقية المتخيلة، قد أصبحت الآن في وسطها."

الفصل التالي

Two people doing construction work.

.متطوعون من اللاجئين يصلحون مسكن في المخيم

.متطوعون من اللاجئين يصلحون مسكن في المخيم

 خلال السنوات العشر الماضية وجد كل لاجئ في الزعتري طريقة خاصة به للتغلب على تحديات النزوح وإثبات الصمود في وجه الأزمات. فقد وجدت إخلاص غايتها من خلال احتياج الآخرين لها. أما عماد فقد وجد غايته من خلال الفن. وما زالت راما تبحث عن غايتها، ولا يعرف أطفال الزعتري شيئاً آخر سوى أن يحملوا طموحات كبيرة لمستقبل أفضل. ولا يمكن تحقيق مستقبل أفضل للاجئين إلا من خلال الحلول البعيدة المدى.

 فماذا ستبدو عليه السنوات العشر المقبلة للاجئي مخيم الزعتري؟